حقائق عن القطط: عالم خفي من السلوك، الذكاء، والتاريخ البيولوجي

القطط من أقدم الحيوانات المستأنسة التي عاشت بجوار الإنسان، وشكلت معه علاقة معقدة من التفاعل والمرافقة والصداقة، امتدت لآلاف السنين. ومع أنها تبدو بسيطة للوهلة الأولى، إلا أن القطط تحمل خلف واجهتها الظريفة عالماً غنياً من السلوكيات الغريزية، والخصائص البيولوجية الفريدة، والقدرات العقلية التي تثير إعجاب الباحثين وعشاق الحيوانات على حد سواء. يُعد هذا المقال مرجعاً موسعاً لأهم الحقائق العلمية والبيولوجية والسلوكية عن القطط، مع توظيف أحدث الدراسات في علم الحيوان والسلوك لمقاربة هذا الموضوع الشامل من زوايا متعددة.

الأصل البيولوجي للقطط وتاريخ استئناسها

ينتمي القط المنزلي (Felis catus) إلى عائلة السنوريات (Felidae)، وهي نفس العائلة التي تضم الأسود والنمور والفهود. تشير الدراسات الوراثية إلى أن جميع القطط المنزلية الحديثة تنحدر من نوع بري يُعرف باسم القط البري الإفريقي (Felis lybica)، الذي بدأ استئناسه منذ حوالي 9,000 عام في منطقة الهلال الخصيب، وتحديداً في مناطق من مصر والعراق القديم.

استئناس القطط لم يكن نتيجة تدخل مباشر من الإنسان كما هو الحال مع الكلاب، بل نتيجة عملية تدرجية بدأت عندما جذبت الفئران الحقول المزروعة، وجذبت القطط بدورها تلك الفئران، مما خلق علاقة منفعة متبادلة بين الإنسان والقط. ومع مرور الوقت، تطورت هذه العلاقة لتصبح القطط شركاء دائمين في المنازل والمعابد، خصوصاً في الحضارة الفرعونية حيث كانت تُقدّس ويُقام لها طقوس خاصة.

الخصائص الفسيولوجية والجينية

1. الحواس الفائقة

• البصر: رؤية القطط في الظلام أفضل من رؤية الإنسان بستة إلى ثمانية أضعاف، بفضل وجود طبقة عاكسة خلف شبكية العين تُعرف باسم tapetum lucidum.

• السمع: القطط تميز ترددات تصل إلى 65 كيلوهرتز، بينما لا يستطيع الإنسان سماع أكثر من 20 كيلوهرتز. هذا يمكنها من التقاط أصوات القوارض الصغيرة بسهولة.

• الشم: تمتلك القطط حوالي 200 مليون خلية شمية، مقارنة بـ 5 ملايين فقط لدى الإنسان.

• الشارب (Vibrissae): تُستخدم شوارب القطط كأداة حسية عالية الدقة لقياس الفضاء والمسافات، وهي مرتبطة بالأعصاب مباشرة.

2. الصفات الوراثية

القطط تمتلك 38 صبغياً (كروموسوماً)، ويتحكم عدد قليل من الجينات في خصائص مثل لون الفرو، نوعية الشعر، وشكل الأذنين. ومن أشهر الطفرات الجينية المعروفة، طفرة “الجين البرتقالي” المرتبطة بالذكور، والجين المسؤول عن غياب الذيل في قطط المانكس، والطفرات التي تؤدي إلى شعر مجعد كما في سلالة “الريكس”.

سلوك القطط المعقد

1. الإقليمية والعزلة

القطط بطبيعتها حيوانات إقليمية، أي أنها تُحدد مساحة خاصة بها وتدافع عنها ضد أي دخيل. وتستخدم لذلك وسائل متعددة كالرش بالبول، الخدش، وإصدار أصوات تحذيرية. هذا السلوك متجذر في أصولها البرية.

2. التواصل

تعتمد القطط في تواصلها على طيف واسع من الإشارات:

• الصوت: المواء، الخرخرة، الزمجرة.

• الجسد: حركة الذيل، انحناء الظهر، توجيه الأذنين.

• الشم: تحديد الروائح من خلال الغدد الخاصة في الوجه والذيل والكفوف.

3. الخرخرة (Purring)

الخرخرة ليست فقط تعبيراً عن الراحة، بل تُستخدم أيضاً في مواقف الألم، الولادة، وحتى في مراحل الاحتضار. ويُعتقد أن تردد الخرخرة الذي يتراوح بين 25 إلى 150 هرتز يساعد في التئام العظام وتحفيز جهاز المناعة.

دورة حياة القطط

1. التكاثر

القطط من أكثر الحيوانات خصوبة. يمكن للأنثى أن تلد من 3 إلى 5 مرات سنوياً، ويتراوح عدد الصغار في كل ولادة من 1 إلى 8. يبدأ موسم التزاوج غالباً في الربيع، وتبلغ فترة الحمل حوالي 63 إلى 65 يوماً.

2. مراحل النمو

القطط في الثقافات والمعتقدات

1. الحضارة الفرعونية

في مصر القديمة، كانت القطط تُقدّس كرمز للحماية والأمومة. وكانت الآلهة “باستيت” تُجسد غالباً بهيئة قطة، وكانت تماثيل القطط توضع لحماية المنازل والمعابد من الأرواح الشريرة.

2. أوروبا الوسطى

خلال العصور الوسطى، ارتبطت القطط، وخصوصاً السوداء، بالخرافات والسحر، مما أدى إلى اضطهادها بشكل كبير. هذا الاضطهاد ساهم في تفشي الطاعون، بسبب ازدياد عدد الجرذان نتيجة تراجع أعداد القطط.

3. آسيا

في اليابان، تُعتبر القطط جالبة للحظ. تمثال “مانيكي-نيكو” (القطة الملوحة) يُستخدم في المحلات والمنازل لجذب المال والازدهار.

قدرات القطط الإدراكية والمعرفية

تشير الدراسات الحديثة إلى أن القطط تمتلك ذاكرة طويلة الأمد، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمواقف المرتبطة بالمكافأة أو العقاب. كما تستطيع التعرف على وجوه البشر وأصواتهم، وإن كانت أقل حماساً في إظهار ذلك مقارنة بالكلاب. تمتلك القطط القدرة على تعلم الروتين ومواعيد الطعام، وتُظهر سلوكيات معقدة مثل طلب اللعب أو المداعبة، مما يُعد مؤشراً على وجود درجة معينة من الإدراك الذاتي.

تغذية القطط والاحتياجات البيولوجية

القطط حيوانات لاحمة إجبارياً، مما يعني أنها تحتاج إلى بروتين حيواني كمصدر أساسي للغذاء. ويُعد الحمض الأميني “التورين” ضرورياً جداً للقطط، حيث أن غيابه يؤدي إلى مشاكل في القلب والعينين. تحتاج القطط أيضاً إلى فيتامين A من مصادر حيوانية، لأنها لا تستطيع تصنيعه من البيتا-كاروتين كما يفعل الإنسان.

المكونات الأساسية لنظام غذائي صحي للقطط:

• بروتين حيواني (لحم، دجاج، سمك)

• دهون حيوانية

• ألياف نباتية بكميات معتدلة

• ماء نقي بوفرة

أمراض القطط الشائعة

تشترك القطط مع الإنسان في قابلية الإصابة بأمراض مزمنة وخطيرة، مما يتطلب رعاية بيطرية دورية:

• داء القطط (Toxoplasmosis): مرض طفيلي يمكن أن ينتقل للإنسان، خصوصاً للحوامل.

• فيروس نقص المناعة القططي (FIV): مشابه لفيروس HIV في البشر.

• اللوكيميا القططية (FeLV): سرطان في خلايا الدم.

• أمراض الكلى المزمنة: تصيب القطط الأكبر سناً بنسبة عالية.

• السكري: نتيجة النظام الغذائي الغني بالكربوهيدرات وقلة النشاط.

القطط والإنسان: علاقة فريدة تتجاوز المنفعة

تشير الدراسات النفسية إلى أن تربية القطط تقلل من مستويات التوتر والقلق لدى الإنسان، كما تساهم في تحسين المزاج وخفض ضغط الدم. العلاقة بين القط والإنسان ليست قائمة فقط على الترفيه، بل ترتكز على تواصل غير لفظي عميق يجعل من القطط كائنات مثالية للتفاعل مع الأشخاص المصابين بالتوحد أو الذين يعانون من العزلة الاجتماعية.

الخلاصة

القطط ليست مجرد حيوانات أليفة تسكن المنازل، بل هي كائنات تحمل تاريخاً طويلاً من التفاعل مع الإنسان، وتمتلك خصائص بيولوجية وسلوكية معقدة تدفع الباحثين إلى دراستها وفهمها بشكل مستمر. من حواسها الفائقة وسلوكياتها الإقليمية، إلى رموزها في الثقافات المختلفة وقدراتها الإدراكية، تظل القطط من أكثر الكائنات إثارة للدهشة والاهتمام في عالم الحيوان.

المصادر

1. Turner, D. C., & Bateson, P. (Eds.). (2014). The Domestic Cat: The Biology of its Behaviour. Cambridge University Press.

2. Bradshaw, J. W. S. (2013). Cat Sense: How the New Feline Science Can Make You a Better Friend to Your Pet. Basic Books.